السبت، 6 أكتوبر 2018

الصورة بقلم الرائع مجدي متولي إبراهيم


الصورة

نظر حوله.. كل شئ يتحرك ببطء, عيناه غائرتان تحدقان فى صمت, بين حلقات الدخان الكثيف.. كل شئ يتسرب من أمامه, الدبابات انتصبت بفوهتها كأنها اوثان, يلتف حولها آخرون من الجنود, يدورون, تغوص أحذيتهم الكبيرة فى الرمال, تترك وراءهم غباراً كثيفاً يحجب الرؤية. لم يشعر بوجوده, أنفاسه تلهث, حاول أن يتنفس عميقاً فتعذر عليه الأمر.. كانت لحظة قاسية عندما التقت عيناه بالواقع.. نيران تلتهب, غضباً خرجت من عيون الآخرين, التهمت قلبه, وكل شئ يحتويه, فلن تطفئ دموع عينيه تلك النيران فقد أشتعلت ومامن مغيث, أصوات تطرقُ سمعه, تدق الرأس الذى ثقل من الهموم.. نفس تلك الأصوات المنبعثة من حوله, أصوات ألفها, وأخرى لم يألفها يسمعها كل حين وحين. تغافل عنها في لحظةٍ مضت, تذكر تماما أنه حاول اقتحام حدود العدو لكنه لم يفلح، كل مرة تأتيه التعليمات بالإنسحاب فوراً, توقف وقد حملقت عيناه الواسعتان في الفراغ الذى حوله سقطت منه فكرة, انحنى لالتقاطها, انزلقت أفكاره المتبقية برأسه تجوب الفضاء. أحس بصوت خطوات تمشى على قشرة الأرض المهترئة.. ثم صوت أجش فزع 
: عريف أحمد. تململ فى مكانه.. لملم شتات فكره, أنتصب واقفا 
: أفندم !!!! 
: أنت جاهز !! : تمام يا فندم. : تقدم مع السرية. ومضى وقت ليس بقليل من العناء والصراخ... انطلقت صرخات أخرى تعطى للحياة معنى آخر. كانت صرخات الجنود تدوى هنا وهناك, يتربصون لتلك اللحظة, ربما يولد فجر جديد يزيل كل هذا العناء. نظر بعينيه إلى الأفق الممتد أمامه, مد يده يتحسس سلاحه ثم همس
: قد حانت الساعة التى طالما انتظرتها. قال ذلك وشعر بقدميه تغوصان فى الأرض الرملية, فأطلق لهما العنان تتسابق مع الريح, وهولايشعر بهما فى آخر لحظاته. 
تخيل كل ما حوله ضبابيا, الله اكبر، كبرت المآذن، لمة أصوات سرف الدبابات، وأزيز الطائرات.. امتزجت صرخات الجنود، مع هدير القنابل و قصف الرعود، كل شىء يشيع في المكان الرهبة، يشتعل الجو ببريق الانفجارات, كلما تذكر كلمات القائد، وهو يصرخ : إذا لم تقتلهم قتلوك تقدَّم.. تقدَّم. 
يصرخ: أنا قاتلهم سيدي القائد!
أنا أكرههم.. إنهم لا يعنون لي شيئا سوى.. إنهم احتلوا أرضى وذاكرتي. عندما تأتيه صورهم واحداً تلو الآخر.. يرشقونه.. ذعراً وقلقا. تتناوب صورهم.. يشعر بمتعة تفريغ ذخيرته فى أجسادهم.
تختلط الدماء والأشلاء بالتراب!! إنها أرضى.. تعرفنى ولا تعرفهم.. تداري صوت أنفاسهم، أما نحن فكانت صيحاتنا الله اكبر الله اكبر، تنزل عليهم اللعنة تلاحق رجالهم المدججين بالأسلحة وبالخوف فتجعلهم بلا ملامح تفضح عريهم وذعرهم تسخر من حمقهم.. تكويهم بجهلهم.. أرض لن تمنحهم سوى الموت أو الجنون. استمرت المعركة طويلاً, وكل يوم يمر نكتسب أرضاً جديدة. اختبأ خلف الدشمة وتمدد أرضاً وسلاحه للأمام منتصبا, وعيناه تحدقان تجوبان المكان.. الأرض قاحلة مشققة ممتدة حتى الأفق تخطب ود السماء فى تضرع لتمطرها بقطرات من الماء تعيد اليها الحياة.. فحص المكان بنظرة بطيئة. المدرعات تنطلق بسرعتها.. انطلق الرصاص بلا تعيين, رشقات متعاقبة تخترق حدود المكان. فتقصف الرؤوس الخاوية, وتعالت الأصوات, الحذر يسود المكان. أسراب الطائرات تحلق إلى الشاطئ الآخر للقناه, والغمامات السود تغزو الفضاء. أجبره الضوء الساطع على إغماض عينيه. جلس يستريح, يستعيد أنفاسه, ويستجمع شتات ذاكرته شعر كأن ذكريات العمر, ومضة.. لعالم الأسطورة. اختلج قلبه بشئ من الخوف والفرح, مزيج من المشاعر, نظرة سالت من عينيه, وكأنه تنبأ بشئ, تنطوى المسافات, وتتوالى الذكريات, نهض من خلف الساتر الترابى, وتقدم مع رفاقه الجنود.. أصيب بطلق نارى, سقط أرضاً.. تمدد طولاً , احتوته الأرض, توشح وجهه بصفرة الموت, ثمة ومضة تتسلل من خيوط الشمس عند المغيب تزيد الرؤى صفرة وشحوبا. عيناه تتقلصان, تضيقان تدريجياً, تنكسر الصور أمامه. استحوذت عليه فكرة الخلاص, تساقطت كل الأشياء الجميلة التى اختزنتها ذاكرته, وأخذ معه براءته ومرحه. نظر اليه القائد, وامتلأ وجهه بدمع غزير, ضمه إلى صدره بقوة, وكانت يده تقبض على صورة حبيبته, وكتب خلفها 
: لايستطيع أن يعيش العالم دون حب وسلام.
مجدى متولى إبراهيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق