الأحد، 7 أكتوبر 2018

عودتان بقلم الرائع محمد علي عاشور



عودتان
قصة قصيرة بمناسبة ذكرى حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر المجيدة
بقلم /محمد على عاشور
الأنظار الشاخصة المتأملة الممتلئة بالفرح أربكته ، منذ أن وطأت قدماه الشارع كانت خطواته ثابتة وراسخة ،عيناه تتحركان في مقلتيه يميناً ويساراً ، البسمة لا تفارق شفتيه ، وهو يومئ برأسه كي يرد التحية التي تشبه التهليل . 
صعد الأتوبيس العتيق وسرعان ما اتجهت الأنظار إليه ووقف كل الركاب وهو يمر وسطهم باحثاً عن مقعد . 
: تعالى يا دفعة هنا مكاني 
قالها شخص وقد نهض من مكانه ليتركه له مزحاً 
: لأ .. تعالي هنا جنبي .. أنا عندي مكن فاضي 
: لا .. جنبي أنا 
: علىّ الطلاق بالتلاته ما أنت قاعد إلا جنبي . 
نطقها الرجل فأسكت الجميع الضاحكين الفرحين وحسم الموقف لصالحه.
: خد يا دفعة ، والنبي لازم تاخد مني وتأكل ، مد إيدك يا بني ما تكسفنيش 
قالتها عجوز وهي تمد له يدها بكيس من البرتقال ، فأخذ واحدة وهي تصر أن يأخذ أكثر 
يأتي أخر ومعه كيس من الموز يدفع به إليه فيشكره ، لكن الرجل يقسم بالطلاق إن لم يأخذ منه سيلقيه من الشباك . 
: وسع لي يا خويا شويه كده ، خد يا دفعه ، شوية كحك من بتاع العيد ، والله أول مرة يبقى له طعم نم زمان ، دا إحنا عمرنا ما عيدنا زي السنة دي ، طب دوق دي كمان . 
: وقعت كام طيارة يا دفعة ؟
: ضربت كام دبابة ؟ 
: قتلت كام واحد منهم ؟ 
: ألا صحيح معاهم نسوان بتحارب ؟ 
: احكي لينا يا دفعه . 
أسئلة تأتي من كل مكان وهو يبتسم في داخله ولا يعرف ما ذا يقول ، واحتوته هاله من الحرج وهو يرى كل هذا الاحتفاء ، حاول أن يدعى النوم وهو يهرب من نظراتهم السعيدة ، وقد انفرجت عن شفتيه ابتسامة عندما سمع في جنبات عقله شخص يقول له ( محجوز يا دفعه .. محجوز ) 
عندها ذهب إلى المكان الوحيد الخالي وجلس بجوار راكب أخر ، رمقه الراكب ، ثم قام وفضل الوقوف في مؤخرة الأتوبيس عن الجلوس بجواره . 
كان يتمني أن تنشق الأرض وتبتلعه أرحم من أن تحرقه هذه النظرات ، ثم تحولت النظرات إلى همسات خفيفة سرعان ما تحولت إلى تهكمات ونكات ثم سباب أعجزه عن الرد لمدة ، وعندما أراد أن يسكتهم بإظهار غضبه لم يجد إلا المعايرة . 
: كنتوا اعملوا رجاله هناك . 
وقتها سقط على الكرسي واضعاً رأسه بين كفيه وأخذ يبكي وعند ما نزل من الأتوبيس ونظر على الأرض الحزينة الباكية على جزئها الضائع ، دخل إحدى حقول الذرة وظل قابعاً بداخلها متواريا عن أعين الناس ، الذين سيقابلونه بنظراتهم التي تشير بالاتهام ، فقد كان يعلم ما تمتلئ به نفوسهم من الخيبة ، خيبة يحملها فوق أكتافه هو وكل يرتدي هذه الملابس . 
بين أعواد الذرة ظل منكفئاً برأسه على ركبتيه حتى انتهى النهار ، فخرج يتستر برداء الليل حتى دخل بينه ، ليلاً وظل جالساً فيه لا يخرج حتى انتهت إجازته ، وكما دخله ليلا ، خرج منه أثناء الليل .
توقف الأتوبيس العتيق ، هبط منه في هدوء ، كلمات من السلامة تنطلق من كل مقعد في الأتوبيس ، كل الأيادي تلوح له ، والأعين تتبعه وهو واقف يلوح كمن يودع عزيزاً . 
نظر إلى الشمس ، حاول أن يسرع الخطاء حتى يصل بيته قبل غروب الشمس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق