الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

العاصفة بقلم الرائع محمد مطاوع

العاصفة

هاجمتني العاصفة و ما زال مركبي على مشارف السّاحل. رتّبت أمتعتي و شددت ما أهمل من عدّة مركبي و تأهّبت لمواجهة العناصر. بلغت ساحة البحر الكبرى بعد مشقّة و عناء. حرمة الأصيل جعلتني أقف على مؤخّرة مركبي أتابع تحوّل اللّحظات. حيّاني من الأفق المترامي شموخ الغروب بكفّ مرتعشة و هامة ضبابيّة و وجه يورّق الغمامُ صفحاتَه المتعدّدة الألوان. تراقصت مشاهده من أرجوانيّ إلى برتقاليّ فرماديّ ثمّ غلبت عليه السّمرة قدم اللّيل الأولى. في داخلي صراع بين المواقف، بين الطّمأنينة و الإضطراب، بين الأنس و الوحشة، بين الحزن و الفرح و بين الأمل و اليأس. أقبل اللّيل و لم أبرح مكاني. أتساءل في حضرة ذلك الصّمت الرّهيب، تحت سماء ناظرة بما لا يحصى من العيون، أمام سكون يرتعش كلّما صفعت يد الموج جوانب مركبي، في قبضة ظلمة خانقة و ضيق أنفاس و اٌنكماش أحاسيس.
سيستقبنا الصّباح في مدخل المضيق و البحر المتوسّط مع دخول اللّيل. من بوّابة الغروب سيشيّعنا الشّفق الأرجوانيّ إلى سواد اللّيل. هناك تتصارع المآرب و تتسابق الأشواق إلى أهدافها. تحت جناح اللّيل يغنّي السّحر على شرف خيوط القمر الفضّيّة و ينشد العاشق قصيده على بساط من الأعشاب و بين تيجان الأزهار على ضفّة بحيرة هادئة. هناك يركض الأمل عابثا في ممرّات السّكون بين باقات القبل يطارد شذى أطياف الحبّ ليجمعها و ينضّدها في رفوف غايته. هناك ينتشر صرير الحشرات في فضاء مجرى ساقية تلوّت بين جذوع الشّجيرات الحالمة و المرتفعات السّاجدة لربّ الأبديّة في خشوع و إكبار. قافلة الأرواح هذه، تراها العواطف المشدودة بخيط الشّعور الرّقيق إلى جناح العبقريّة. قافلة الأرواح هذه، ستعبر شاطئ السّحر لتنطلق من الفجر في رحلة أخرى.
أتساءل ... أين الطّيور اللّيليّة الّتي عادة تداعب أشرعة المراكب ؟... أين مراكب الصّيد الّتي ما فتئت تقاطع الطّرقات في الخلجان و المضيقات ؟... أين الضّوضاء ؟... أين الهرج و المرج و الصّخب ؟... بلعها بلعوم السّكينة و اٌستقرّت في أحشاء الوحشة. تلك الغربة في عمق المحيط أهون من اٌستبداد العاصفة على مرأى من اليابسة.
السّماء مثقّلة بغيوم متردّدة بين الأسفل و الأعلى تتثاءب على نخب إيماء أشرعة مركبي و هدير الأمواج المتكسّرة على مقدّمته. مركبي قزّمته البواخر العملاقة. كانت تمرّ بجانبه برشاقة هازئة بأبّهته ناظرة إلى سخافته باٌحتقار. المدن و القرى المغربيّة تنام على صدر المرتفعات و أقدامها ملفوفة في جلابيب بيضاء تتصاعد منها أعمدة الدّخان و البخار. محطّة طريفة تراقب تنقّل البواخر باٌستمرار و ترشدها على الدّوام للحفاظ على السّلامة.
قذفنا المضيق إلى مياه البحر الأبيض المتوسّط في السّاعات الأخيرة من ذلك اليوم. اٌتّجهنا شمالا نحاذي سواحل المملكة الإسبانيّة. لقد نسينا شراسة العاصفة و أهوال المحيط و اٌستسلمنا للطف الهدوء و مؤانسة البحر الجميل. أطلّ علينا شبح اللّيل في معطفه الفضفاض من الأفق النّائي تلاحقه ومضات برق خاطف و ينهره دويّ رعد قاصف و تتوّجه كتل من السّحب الدّاكنة. الأصدقاء الأربعة في شغل أكيد لا يمكن أن نؤخّره لأنّ مفاجأة البحار لا تنتظر. الأخبار تنبّئ بقدوم عاصفة بالحوض الغربي للمتوسّط في هذه اللّيلة و ستتواصل لأيّام. لا خيار أمامنا سوى المواجهة و التّصرّف بحذر و القيام بما يتتطلّبه الموقف. شدّ الأمتعة و طيّ الأشرعة و تهيئة المحرّك و اٌختبار أجهزة الاتّصالات و معدّات الانقاذ. تناولنا قليلا من الفواكه الجافّة و المصبّرات و المشروبات الغازيّة ثمّ إلتحقنا بغرفة القيادة. الطّقس معتدل، ريح طيّبة من الشّمال الغربي و البحر قليل الاضطراب. كنّا نتابع الانذارات و ما تخبر به البواخر حسب مواقعها. الأوضاع في الجهة الشّرقيّة تأزّمت، رياح عاتية و بحر عنيف و أمطار غزيرة. إنّها العاصفة في مياه العاصمة الجزائريّة.
تشاورنا لأخذ القرار، أناتبع في اٌتّجاه العاصفة أم نغيّر المسار إلى أقرب ميناء. و كان الإتّفاق على تغيير الوجهة إلى مدينة النّاظور المغربيّة. تبعد عن موقعنا مسير عشر ساعات. السّاعة تشير إلى الواحدة صباحا، اٌرتفعت قوّة الرّياح من نفس الإتّجاه و صفّقت أجنحة الأمواج و اٌقتربت القصفات و تسارع الوميض و غشّت السّحب فضاءنا. المركب يتمايل و يتقدّم بثبات. عارض من المطر خفّض الرّؤية و غمر السّطح بسيول هائلة. إشعار نجدة على جهاز الذّبذبات القصيرة، يا إلهي كارثة ببحر الشّمال، باخرة يونانيّة قهرتها الأمواج و دفنتها في الأعماق. لقد اٌستنجدت و لكن دون جدوى، سبقت المنجدين إلى قدرها. إنّها العاصفة، زفرة هذا الجبّار الّذي لا يرحم. أصبحت الأمطار متواصلة و الرّياح مولولة و الرّعد يلقي بصواعقه هنا و هناك و البرق يصارع أنوار الصّباح و أعصاب المشوار متوتّرة. كان ثلاثة منّا في غرفهم يأخذون نصيبا من الرّاحة بعد عناء النّصف الأوّل من اللّيل، إشعار ثان على جهاز الذّبذبات العالية، حدّدنا الموقع، إنّه قارب على مقربة منّا، حوّلنا وجهتنا نحوه عسى أن ندركه قبل فوات الأوان. رداءة الطّقس حوّلت الرّؤيا إلى شبه منعدمة. نهض الأصحاب من نومهم و اٌلتحقوا بنا لنتعاون مع بعضنا للقيام بهذا الواجب الأنسانيّ. نحن في دائرة موقع القارب حسب الجهاز، فلنبحث بثبات، كلّ واحد في اٌتّجاه و لا تتعجّلوا. الموقف صعب و لا يمكن أن نغادر قبل تمشيط المساحة. الوقت يمرّ و الطّقس في تصعيد، لكنّه الواجب،علينا التّحلّي بالصبر و مواصلة البحث مهما كلّفنا ذلك من عناء. إنّه ليس مجرّد قارب بل أرواح بشريّة قادتهم الحاجة إلى ما هم عليه. إنّه هناك، توجّه قليلا إلى اليمين، ثبّت الطّرقة هكذا و تقدّم بحذر.
لم يكن مركبنا بأحسن حال، التّيّار يصدّه إلى الوراء بشدّة جنونيّة و الأمواج تصفعه بالتّناوب و المدّ يرفعه و يلقيه، لكنّ الواجب يلزمنا و علينا أن نتحمّل ما لا نطيق. القارب سليم لكنّهم يحتاجون إلى كمّيّة من الوقود ليتابعوا رحلتهم إلى غايتهم. زوّدناهم بما يحتاجون إليه و تركناهم لإرادتهم، لهجرتهم السّرّيّة.
التّاسعة صباحا بيننا و بين مدينة النّاظور ثلاث ساعات من الإبحار، قد خسرنا ساعة تقريبا في البحث عن القارب. الأخبار تبشّر بتحسّن في الأيّام القادمة. منخفض جوّيّ أعنف و أشدّ تمركز على الجزر الإغريقيّة. مقياس الضّغط الجوّيّ يرتفع تدريجيّا في مساحتنا، تحسّنت الأحوال في دائرة الشّواطئ الجزائريّة حسب أنباء البواخر. تبادلنا النّظرات و سبقت الإبتسامة قرارنا الأخير. نواصل الرّحلة و لا وجوب لتضييع الوقت. إنّ هناك من ينتظرنا على أحرّ من الجمر. عدنا إلى اٌستعمال الأشرعة و وجّهناها بما يناسب طرقتنا و رفعناها بقدر ما يحافظ به على السّلامة و اٌنطلقنا نشقّ العباب و نطوي المسافات. تداهمني أشباح العاصفة في أحلامي فأطوّقها بعزيمتي و توقظني ركلات الأمواج فأتقبّل اٌستفزازها بصبر جميل و أمل فيّاض.
كادت العاصفة أن تجرح مشاعري لو لا إيماني العميق بحرمة الواجب و صفاء الضّمير. حاولت تذليلي بجبروتها و تسخيري لغايتها فاٌتنصرت لمبدئي بمركب شراعيّ و ما قلّ من أجهزة و معدّات. أيّتها العاصفة، لست ذلك الّذي يخشاك و لا ذلك الّذي ينكر حزمك و يكره عزمك. أنت أنفاس المحيط المؤنسة، فيك علاج للمشاعر و تجلية من صدإ الخايالات الكاذبة، و أنت غضبه لردع الأنفس الخبيثة الماكرة. أنت الصّراحة في خطاب المحيط، أصغي إليك فأفهم معنى الحقيقة و أدرك جنون الكائنات. تطربني أنغامك فأصدح منشدا مواويل شبيبتي و تزعجني أنباء أجنادك عن ضحاياها فأصرخ نادبا سوء حظّهم. في وحدتي أراجع ما قرعت به آذان اللّيالي فأتّعظ و أعود إلى نفسي مباركا ثوراتك ايّتها العاصفة. أنت و غربة المحيط طمأنينة و سلام.
م.ح.م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق