الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

خطوات بقلم الرائع محمد مطاوع

خطوات

يعود بي المشوار إلى أمس شقيّ بما فيه من مراحل أليمة. أغمض عيناي لعلّي أضمّد جراحا أنهكت أنفاسي و اٌستعبدت دورتي الدّمويّة. كم أخذ منّي مارد الضّجر و كم سخر من معاناتي. كنت أرتدي الصّبر درعا و لكنّ حرابه أسنّ من فكرتي المضطربة و قراراتي العتيقة. كنت أمشي بحذر على درب المكتوب و لكنّ ثباته أوسع من مبادئي الضيّقة و همّته أطول من رجائي القصير.
تململ ذلك الأمس ممتشقا آمالي و لهثة شهوتي و ركض بين ممرّات الأحزان الممتدّة على شطآن غيب مجهول. أمس له بنفسي ملفّات متراكمة كلّما راجعتها أضفت ألما إلى آلامي. أمس كسراب خادع في مدى الصّحراء تثاءب على قمم الكثبان. لست أدري كيف يحكم اليأس ذاتي و يقذفني الوجع دون رحمة إلى ماض معفّر بالنّدامة. ها هي الرّؤى اللّعينة تفيض تهكّما و اٌحتقارا على ضفاف الذّاكرة تحكي ما تولّى و لن يعود. هل يسعفني تشنّج أعصابي من غمزات الأيّام و لمزات اللّيالي ؟... من الحكمة أن أحفر قبري بأسناني و أغمض أجفاني و أحنّط أكفاني و أصلّي صلاة الجنازة على جثماني إنّها اللّحظة المرتقبة يا قلبي.
من وراء البحر لمّا تكسّرت الأمواج على صخور جزر الشّقّ الآخر هدأت ضجّة الوشم الرّاكض في عروق الصّمت و اٌنحدرت أطماع النّوارس مكركرة أمواج الأثير خلفها و اٌصطدمت النّجوم بأجناد الغمام النّافرة من هدير العاصفة. الخيط الحريريّ الأزرق مدّته خبايا الاستفزاز منشرا لنواياها الماكرة. شحنة من لعاب الغفلة اٌنفجرت شظايا مكر و خديعة. صرخة اللّون البرتقالي رقصت لها أقدام الموادع الخضر و أنشدت أزرارها غياب أكمامها الضّائعة في زنزنات الشّرف المفقود بين جبال الألب و البيريني. قدّس الطّوفان هيبة الرّون و السّان و للوار و غمر سهول نرمنديا و بريطانيا الصّغيرة. المحيط الأطلسي شاهد على الهجمات البربريّة الّتي دمّرت السّدّ الفاصل بين الأصل و الفرع. قفزة الباطل الظّالمة على أكتاف الحق كانت صدفة غير منتظرة جعلت قادة الشّياطين يتّجهون شمالا لشرب أكواب الجعّة بحانات أحياء باريس الملطّخة بالذّلّ و الضّبابيّة. هيكل اللّوفر قزّم هامة برج إيفل المطلّة على مغازات الشّان زيليزي. قوافل العربات الزاحفة تمشّط شوارع المدينة لتخبر عن ضحايا الجنوب. القوارب المنتشرة في مجرى النّهر تتمايل أمام التّيّار الرّاحل إلى البلدات الرّابضة على سواحل بحر لامانش. من لا يشعر بهذه القوّة الجبّارة الزّاخرة بالفواجع و لا يعي هذا البلاء النّكير. من يقول أنا أبله كاذب سفيه غارق في مستنقع النّفاق.
أطلّت طلعة ذلك اليوم المتمرّد يرهقها كابوسه الجهنّميّ فاٌنكسرت همّة الظّنّ و تناثرت قطعَ شكّ بمستنقع الخيبة المتعفّن. لم تسأل أمّي عن زلزلة باغتتها أشدّ و أعنف من سابقاتها و لم تتأثّر بالصّدمة المؤلمة الّتي لا تقلّ وجعا عن صفعة شوّهت خدود أبنائها. صمدت على ساقها السّليمة غير عابئة بكسر ساقها الأخرى ترضع المنكوبين و تلمّ شتات المشرّدين.
هجرت الحمائم أوكارها خشية نكبة قادمة من نقمة غير منتظرة و لزمت السّنانير جحورها خوفا من الغربان. أصبح السّهر حرمة من حرمات اللّيل يهابه السّمّار و ندماء السّحر. هكذا فرض الصّمت سيطرته على الجلبة و طالت أيادي الحوادث قمّة العادة و تفشّى الرّعب في حظائر الماشية. اٌنتحرت الطّمأنينة على سدّة الفزع و اٌغتال الظّمأ القطيع في جوار المنابع. أمست العدالة مكفّنة بالرّياء و الظّلّ سمّمته الهاجرة و الضّياء يختفي خلف الظّلمة. ها هي الذّئاب ترتدي جلود الخرفان و الثّعالب تدّعي البراءة و تتجوّل في المزارع و تقتحم الأحياء.
سادت الهشاشة و اٌنعدمت العناية و اٌنسلخ الحياء من جدّه و سعت الآفات فتّاكة لا يردعها الارشاد و لا يمنعها عن أهدافها مانع. اٌختلى البحر بملّاحيه و الفضاء بروّاده و اٌنكمشت المسافة بين الأسفل و الأعلى فلم يعد ثمّة شفافيّة و تأزّم الوضع إلى حدّ الإفلاس و التّسحّر. الوعي يقود إلى الشّعور بالمسؤوليّة و تتولّد عنه أشكال مختلفة من التّقارير تفضي إلى أخذ القرار النّهائيّ بعد نقاش بنّاء و مواجهة فكريّة أو مكابرة و ولاء و في كلتا الحالتين يحسم الأمر إمّا فشل ينجرّ عنه انفصال و انقسام و تصدّع و إمّا صلح و إعادة هيكلة تنطلق من جديد.
م.ح.م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق